مَسْأَلَة: هَل كَانَ دَاوُد الظَّاهِرِيّ صَاحب الْمَذْهَب رَضِي الله عَنهُ مِمَّن يعْتد بِهِ فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِي زَمَانه أم لَا وَهل كَانَ بِحَيْثُ إِذا حدثت فِي زَمَانه فَخَالف فِيهَا وَحده يعد خارقا للْإِجْمَاع وَكَذَلِكَ من لم ير نقض الْوضُوء بِالنَّوْمِ إِلَّا إِذا أخبر بِخُرُوج الْحَدث كسعيد بن الْمسيب وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ هَل ينْعَقد الْإِجْمَاع بدونهم أم لَا ؟.
أجَاب رَضِي الله عَنهُ:
أما الِاعْتِدَاد بِدَاوُد يرحمه الله فِي الاجماع وفَاقا وَخِلَافًا مهما وَقع فِيهِ الِاخْتِلَاف بَين الْفُقَهَاء والأصوليين منا وَمن غَيرنَا فَذكر الْأُسْتَاذ الإِمَام أَبُو اسحق الاسفرائيني رَحمَه الله أَن أهل الْحق اخْتلفُوا فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم الى أَن نفاة الْقيَاس لَا يبلغون منزلَة الِاجْتِهَاد وَلَا يجوز توليهم الْقَضَاء وَهَذَا يَنْفِي الِاعْتِدَاد بِدَاوُد فِي الاجماع وَنقل صَاحب الْإِسْنَاد أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ عَن أبي عَليّ بن أبي هُرَيْرَة وَطَائِفَة من متأخري الشافعيين أَنه لَا اعْتِبَار بِخِلَافِهِ وَسَائِر نفاة الْقيَاس فِي فروع الْفِقْه لَكِن يعْتَبر خلافهم فِي الأصوليات
وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي بن الْجُوَيْنِيّ مَا ذهب إِلَيْهِ ذَوُو التَّحْقِيق أَنا لَا نعد منكري الْقيَاس من عُلَمَاء الْأمة وَحَملَة الشَّرِيعَة فَإِنَّهُم أَولا باقون على عنادهم فِيمَا ثَبت استفاضة وتواترا وَأَيْضًا فان مُعظم الشَّرِيعَة صادرة عَن الِاجْتِهَاد والنصوص لَا تفي بالعشر من أعشار الشَّرِيعَة فَهَؤُلَاءِ ملتحقون بالعوام وَكَيف يدعونَ مجتهدين وَلَا اجْتِهَاد عِنْدهم وَهَذَا مِنْهُ نوع إفراط
وَكَانَ أَبُو بكر الرَّازِيّ من أَئِمَّة الْمُحَقِّقين يذهب فِي دَاوُد وَأَضْرَابه إِلَى نَحْو هَذَا الْمَذْهَب ويغلو فَذكر دَاوُد فِي مُقَدّمَة كِتَابه فِي أَحْكَام الْقُرْآن وَمَال عَلَيْهِ فأفرط وَقَالَ فِيمَا قَالَ لَو تكلم دَاوُد فِي مَسْأَلَة حَادِثَة فِي عصره وَخَالف فِيهَا بعض أهل زَمَانه لم يكن خلافًا عَلَيْهِم
قَالَ وَكَانَ يَنْفِي حجج الْعُقُول ومشهور عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول بل على الْعُقُول وَقَالَ بعد كَلَام كثير وَلأَجل ذَلِك لم يعد خِلَافه أحد من الْفُقَهَاء خلافًا وَلم يذكروه فِي كتبهمْ فقد انْعَقَد الاجماع على أطراحه وَترك الِاعْتِدَاد بِهِ هَذَا الرَّازِيّ فِيهِ وَهُوَ كَمَا ترى لَا يَخْلُو عَن نوع من الحنيفة الَّذِي قد كَانَ فِيهِ وَكَانَ شَدِيد الْميل والعصبية على من يُخَالِفهُ من حَيْثُ أَنه قد وصف دَاوُد فِي هَذَا الْموضع من كِتَابه بِمَا يأباه عَنهُ الثَّابِت الْمَعْرُوف من زهده وتحريه
وَالَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور فِي هَذَا وَذكر أَنه الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه يعْتَبر خِلَافه فِي الْفِقْه الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ الْأَمر آخرا فِيمَا هُوَ الْأَغْلَب الأعرف من صفوة الْأَئِمَّة الْمُتَأَخِّرين الَّذين أوردوا مَذَاهِب دَاوُد فِي إِثْبَات مصنفاتهم الْمَشْهُورَة فِي الْفُرُوع كالشيخ أبي حَامِد الإسفرائيني وَصَاحبه الْمحَامِلِي وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم فانه لَوْلَا اعتدادهم بِخِلَافِهِ لما أوردوا مذاهبه فِي أَمْثَال مصنفاتهم هَذِه لمنافاة موضوعها لذَلِك وَبِهَذَا أجبْت مستخيرا الله تَعَالَى مستعينا مِمَّا بناه دَاوُد من مذاهبه على أَصله فِي نفي الْقيَاس الْجَلِيّ وَمَا اجْتمع عَلَيْهِ القياسيون من أَنْوَاعه أَو على غَيره من أُصُوله الَّتِي قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع على بُطْلَانهَا فاتفاق من عداهُ فِي مثله على خِلَافه إِجْمَاع مُنْعَقد وَقَوله فِي مثله مَعْدُود خارقا للاجماع وَكَذَلِكَ قَوْله فِي المتغوط فِي المَاء الراكد وَتلك الْمسَائِل الشنيعة فِيهِ وَكَقَوْلِه فِي الرِّبَا فِيمَا سوى الْأَشْيَاء السِّتَّة فخلافه فِي هَذَا وَأَمْثَاله غير مُعْتَد بِهِ لكَونه مَبْنِيا على مَا يقطع بِبُطْلَانِهِ وَالِاجْتِهَاد الْوَاقِع على خلاف الدَّلِيل الْقَاطِع كاجتهاد من لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد فِي انزالهما بِمَنْزِلَة مَا لَا يعْتد بِهِ وينقض الحكم بِهِ وَهَذَا الَّذِي اخترته يثبت بِدَلِيل القَوْل بتحرير يجز منصب الِاجْتِهَاد وَقد تقرر جَوَاز ذَلِك وَإِن الْعَالم قد يكون مُجْتَهدا فِي نوع دون غَيره وَالْعلم عِنْد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثمَّ لَا فرق فِيمَا ذَكرْنَاهُ بَين زَمَانه وَمَا بعده فَإِن الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَصْحَابهَا وَأما من لم ير نقض وضوء النَّائِم إِلَّا إِذا أخبر بِخُرُوج حدث كَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنْهُمَا ان كَانَ سعيد قَالَ ذَلِك فَإِنَّهُ غير مَعْرُوف عَنهُ فالإجماع لَا ينْعَقد مَعَ خلافهما فَإِن أَبَا مُوسَى أحد فُقَهَاء الصَّحَابَة وَمن الْمُفْتِينَ فِي عصرهم وَكَانَ سعيد صَدرا فِي الْعلم والفتيا وَغَيرهمَا فِي ذَلِك الصَّدْر وترجح على أجلاء التَّابِعين وَكَانَ السُّؤَال عَن انْعِقَاد الاجماع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خَاصَّة على خلاف هَذَا القَوْل فَعدم انْعِقَاده فِيهَا فِي ذَلِك الْعَصْر لَازم من هَذَا وَأما فِيمَا بعده فقد أجمع على خِلَافه فِيمَن قَالَ إِن الْإِجْمَاع بعد عصر الْمُخْتَلِفين على أحد قوليهم إِجْمَاع صَحِيح رَافع للْخلاف فقد تحقق عِنْده انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة على خلاف ذَلِك القَوْل وَمن قَالَ أَنه لَا يرفع الْخلاف فَلَا إِجْمَاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُطلقًا وَهَذَا الْمَذْهَب هُوَ الصَّحِيح فِي ذَلِك وَالله أعلم
فتاوى ابن الصلاح 1 /208