الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وخلفائه وورثته أجمعين.
وبعد: فهذا مبحثٌ مُوجزٌ في بيانِ فضل ليلةِ النصفِ من شعبانَ، وحكم إحيائِها، أسألُ اللهَ تعالى الكريمَ بمنِّه وفضلِهِ أن يتقبلَه وينفعَ بهِ، فأقولُ مستعيناً باللهِ تعالى استعانَةَ من أقرَّ بعبوديَّتِهِ له وعلمَ أن لا حولَ ولا قوةَ إلا بِهِ تَعالَى:
فضْلُ ليلةِ النِّصفِ من شَعْبانَ:
تعددتِ الأحَاديثُ والأثارُ في بيانِ فضلِ ليلةِ النِّصفِ من شَعبانَ على تفاوتِ مراتِبها من حيثُ الصحةُ والضَّعفُ بما لا يدعُ شَكاً للباحِثِ المنْصِفِ: أنَّ لهذِهِ الليلةِ فضيلةً اختصت بها عن سَائرِ الليَالي؛ ولهذَا جاءت الأثَارُ عن السَّلفِ رحمهم اللهُ تعَالى في بَيانِ فضلِها والاجتهَادِ في إحيَائِها.
وقد اتفقت المذاهبُ الأربعةُ على ندبِ إحيائِها كما سَتراه في هَذا المبحثِ إن شاءَ اللهُ تعالى.
قال شيخنا طارق السعدي-أديم فضله-:
وفي صحيح البَيان: «يَطَّلِعُ الله على عِباده [حينها] فيَغفِرُ لجميع خلْقه إلا لمُشرك أو مُشاحِن» في العصيان. فسارعوا بالمُوقِيّات الحِسان. ط”
وقال: “لَيْلَةُ نِصْف شَعْبان: ليْلَة البَرَكَة وَالفُرقان، لَيْلَة البَراءَة والإجابَة والغُفْران .. فالمُوَفَّق: مَن قامَها وصام يومَها بإحسْان.في الخَبر الصَّحِيْح:” يَطَّلِعُ اللهُ عَلَى عبادِه ليلة النِّصف مِن شعبان، فيَغْفِرُ لِجَمِيْع خلْقِه إلا لمُشْركٍ أو مُشَاحِن “؛ شَيطان. “
ومن الأدلةِ على ذلكَ:
1- من الكتَابِ العزِيزِ:
قَوْله تَعَالَى {فِيهَا يفرقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم} فقد جاء عن بعضِ السَّلفِ: أنها ليلةُ النِّصفِ من شَعبان:
قَالَ سيدُنا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهُمَا:”يَقْضِي اللَّهُ الْأَقْضِيَةَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَيُسَلِّمُهَا إِلَى أَرْبَابِهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ”.[المبدع برهان الدين ابن مفلح 3/57]
قَالَ العلامةُ القَرافي المالكي رحمهَ اللهُ تعالى:”قِيلَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَقِيلَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلَةِ بِهَا وَإِلَّا فَكُلُّ شَيْءٍ قَدْ قُدِّرَ فِي الْأَزَلِ”[الذخيرة للقرافي 2/548]
2- من السُّنة الشَّريفةِ:
*ما ورد عَنْ سيدنا عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:”يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا لِاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ “.
[سنن ابن ماجه 6642]
ولهذا بوَّبَ الإمامُ ابنُ ماجه، والإمامُ التِّرمذي رحمها اللهُ بقولهِمَا :”بَابُ مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ”
والأحاديثُ في البابِ متعددةٌ تدلُّ بمجموعها على ما ذكرنا، وللهِ تعالى الحمدُ والمنَّة.
قال العلامةُ عبد الحيِّ اللَّكنَوي رحمه الله تعالى:”وفي البابِ أحاديثُ أخر أخرجها البيهقيُ وغيرُه على ما بَسَطها ابنُ حجرَ المكيِّ في الإيضاحِ والبيانِ دالةٌ على أنَّ النبيَّ أكثرَ في تلكَ الليلةِ من العبادةِ والدعاءِ وزار القبورَ ودعا للأمواتِ فيعلم بمجموعِ الأحاديثِ القوليَّةِ والفعليَّةِ استحبابُ إكثارِ العبادةِ فيها”أ.هـ
وقد جاءَ تعظيمُها عن السلفِ رحمهم الله تعالى، فقد قالَ ابن رجبٍ رحمه الله تعالى:”وليلةُ النصفِ من شعبان كان التَّابعونَ من أهلِ الشَّامِ كخالدِ بن معدانَ ومكحولٍ ولقمانَ بن عامرٍ وغيرِهم يعظِّمونها ويجتهدونَ فيها في العبادَةِ..”[لطائف المعارف 136]
قال شيخُنا الإمامُ طارقُ بن محمد السَّعديُّ الحسَنيُّ قدَّسَ الله تعالى سرَّه الشَّريف:” لَيْلَة نِصْف شَعْبان: ليْلَة البَرَكَة وَالفُرقان، لَيْلَة البَراءَة والإجابَة والغُفْران .. فالمُوَفَّق: مَن قامَها وصام يومَها بإحسْان. ط
وههنا مسألتان:
الأولى: حكمُ إحياءِ ليلة النِّصفِ:
اتقفت المذاهبُ الأربعةُ على: ندبِ إحياءِ ليلة النّصفِ من شعبان، لما وردَ فيها من الأحاديثِ والآثار.
المذهب الحنفي :
قالَ في: [مراقي الفلاح]:”(و ) يندبُ إحياءُ ( ليلةِ النصف من شعبانَ ) لأنها تكفِّرُ ذنوبَ السَّنة…ومعنى القيامُ أن يكونَ مشتغلاً مُعظمَ الليلِ بطاعةٍ ..”. [مراقي الفلاح للشرنبلالي 1/151]
وقال في موضعٍ آخرَ:”و” نُدبَ” الاغتسالُ”في ليلةِ براءة” وهي ليلةُ النصفِ من شعبانَ لإحيائِها وعِظم شأنها إذ فيها تقسَّمُ الأرزاقُ والآجالُ”.[مراقي الفلاح الشرنبلالي 1/48]
المذهب المالكي:
قالَ العلامةُ الحطَّاب رحمه الله تعالى في:[ مواهبِ الجليل 2/193]: (وندبَ إحياءُ ليلتهِ) أي ليلةِ العيدِ، وفي حكمِها عندَهم: ليلةُ النصفِ كما قالَه غيرُ واحدٍ.
قالَ العلامةُ الخرشيُّ رحمه الله تعالى:”الْإِحْيَاءُ يَحْصُلُ بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ عَلَى الْأَظْهَرِ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَمِنْهَا الْغُسْلُ عَلَى الْمَشْهُورِ”.إهـ
[شرح المختصر للخرشي 2/ 101]
المذهب الشافعي:
قالَ الإمامُ النوويُّ رحمه الله تعالى:”وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ الْإِحْيَاءَ الْمَذْكُورَ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ يُتَسَامَحُ فِيهَا وَيُعْمَلُ عَلَى وَفْقِ ضَعِيفِهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّ فَضِيلَةَ هَذَا الْإِحْيَاءِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ [المجموع شرح المهذب 5/43]
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى:”وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ فَضْلًا وَأَنَّهُ يَقَعُ فِيهَا مَغْفِرَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَاسْتِجَابَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – إنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِيهَا”[الفتاوى الفقهية الكبرى 2/80]
المذهب الحنبلي:
قال العلامة البهوتي رحمه الله تعالى:”ولا يقومُهُ كلَّه-يعني الليلَ- إلا ليلةَ عيدٍ، ويتوجَّهُ ليلةُ النصفِ من شعبان”.[الروض المربع للبهوتي 118]وانظر شرح منتهى الإرادات (1/251)
وفي كشاف القناع:[ 1/444]: “( وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل وكان ) في ( السلف من يصلي فيها…”
المسألةُ الثَّانية: حكمُ الاجتماعُ في مسجدٍ لإحيائها:
في هذه المسألةِ كلاٌ يطولُ ذكره، والأمرُ راجعٌ على التحقيقِ إلى: حقيقةِ البِدعةِ، وقد كتبتُ فيها بحثاً تجده على هذا الرابط:
قالَ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى :”واختلفَ علماءُ أهلِ الشَّامِ في صفةِ إحيائِها على قولين:
أحدهما: أنَّه يستحبُّ إحياؤُها جماعةً في المساجدِ كانَ خالدُ بن مِعدانَ و لقمانُ بن عامر و غيرُهما يلبسونَ فيها أحسنَ ثيابهم و يتبخَّرون و يكتحِلونَ و يقومُونَ في المسجدِ ليلَتهم تلك، و وافقهم إسحاقُ بن راهويه على ذلك، و قال في قيامِها في المساجدِ جماعةً :”ليسَ ببدعةٍ” نقلَه عنه حربُ الكِرماني في: [مسائله].”أ.هـ
و الثاني : أنه يُكره الاجتماعُ فيها في المساجد للصلاةِ و القصص و الدعاءِ، و لا يُكره أن يصلِّيَ الرجلُ فيها لخاصةِ نفسِهِ. وهذا قولُ الأوزاعيُّ إمامُ أهل الشّام و فقيههم و عالمِهم، واختاره ابنُ رجبٍ رحمه الله تعالى. [انظر لطائف المعارف 136]
والصوابُ: أنه لا بأس إن شاء اللهُ تعالى بإحيائِها في المسجدِ جماعةً بل يستحب، والمانعُ مُطالبٌ بدليلِ المنعِ!
صيامُ يوم النصفِ:
وأمَّا صيامُ يومِ النصف من شعبانَ فزيادةً على كونِهِ من أيامِ البيضِ، فقد ورد الدليلُ على فضلِ صيامهِ بخصوصِهِ، واستحبَّه الفقهاءُ رحمهم الله تعالى.
قالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ رحمه الله تعالى في:[ لطائف المعارف 136]
“وأما صيامُ يوم النصف منه فغيرُ منهيِّ عنه، فإنه من جملةِ أيامِ البيضِ الغُرِّ المندوبِ إلى صيامِها من كل شهرٍ، وقد ورد الأمرُ بصيامهِ من شعبان بخصوصِهِ، ففي سنن ابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا كانَ ليلةُ نصفِ شعبانَ فقومُوا ليلَها وصومُوا نهارَها…”الحديث
نصيحةٌ:
قالَ ابن رجب رحمه الله تعالى ناصحاً:”فينبغي للمؤمنِ أن يتفرَّغَ في تلك الليلةِ لذكر اللهِ تعالى ودعائه بغفرانِ الذنوبِ، وستر العيوبِ، وتفريجِ الكروبِ، وأن يقدم على ذلكَ التوبةَ فإن الله تعالى يتوبُ فيها على من يتوبُ.
فقم ليلةَ النصفِ الشَّريفِ مصليا … فأشرفُ هذا الشَّهرِ ليلةُ نصفِهِ
فكم من فتى قد بَاتَ في النصف آمِنَا … وقد نُسخت فيه صحيفةُ حتفهِ
فبادر بفعلِ الخيرِ قبل انقضائهِ … وحاذر هجومَ الموتِ فيه بصرفهِ
وصم يومَها لله وأحسن رجاءَه … لتظفر عندَ الكَرب منه بلطفهِ”
[لطائف المعارف 136]
والله المسؤولُ أن يوفقَنا لما يحبُّه ويرضاه ويفقهنا في دِيننا
والله تعالى أعلم
وصَلى الله على سيدِنا محمدٍ وآلهِ وصحبهِ وخلفائِهِ وورثتِهِ أجمعين.