المراد بالصوفي هنا من تحقق بلزوم طريق أهل الله تعالى لا من ادعى ذلك فتنبه!
قال الشيخ أبو المواهب عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في كتاب [تنبيه المغترّين]:”من أخلاق السلف الصالح : ملازمة الكتاب والسنة كلزوم الظلّ للشاخص، ولا يتصدّر أحدهم للإرشاد إلا بعد تبحره في علوم الشريعة المطهرة: بحيث يطلع على جميع أدلة المذاهب المندرسة والمستعملة، ويصير يقطع العلماء في مجالس المناظرة بالحجج القاطعة أو الراجحة الواضحة.
وكتب القوم مشحونة بذلك، كما يظهر من أقوالهم وأفعالهم.
وقد كان سيد الطائفة الإمام أبو القاسم الجنيد يقول:” كتابنا هذا ” يعني: القرآن ” سيد الكتب وأجمعها، وشريعتنا أوضح الشرائع وأدقها، وطريقتنا ” يعني: طريق أهل التصوف ” مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويحفظ السنة وبفهم معانيهما لا يصح الإقتداء به “.
وكان يقول:” ما نزل من السماء علم وجعل الحق تعالى لغير نبي إليه سبيلاً إلا وجعل لي فيه حظاً ونصيباً “.
وكان يقول لأصحابه:” لو رأيتم رجلاً قد تربّع في الهواء، فلا تقتدوا به حتى تروا صنعه عند الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثلاً لجميع الأوامر الإلهية مجتنباً لجميع المناهي، فاعتقدوه واقتدوا به. وإن رأيتموه يخل بالأوامر ولا يجتنب المناهي، فاجتنبوه “.
قلت: وهذا الخُلُق قد صار غريباً في فقراء هذا الزمان، فصار أحدهم يجتمع بمن ليس له قدم في الطريق، ويتلقف منه كلمات في الفناء والبقاء والشطح مما لا يشهد له كتاب ولا سنة، ثم يلبس له جبة، ويرخي له عذبة، ثم يسافر إلى بلاد الروم _ مثلاً _ ويظهر الصمت والجوع، فيطلب له مرتباً أو مسموحاً، ويتوسل في ذلك بالوزراء والأمراء، فربما رتبوا له شيئاً، فيصير يأكله حراماً في بطنه؛ لكونه أخذه بنوع تلبيس على الولاة، واعتقادهم فيه الصلاح.
وقد دخل علي شخص منهم، فصار يخوض بغير علم ولا ذوق في الفناء والبقاء، ومعه جماعة يعتقدونه، فواظبني أياماً، فقلت له يوماً: أخبرني عن شروط الوضوء والصلاة ما هي؟ فقال لي: أنا ما قرأت من العلم شيئاً. فقلت له: يا أخي، إن تصحيح العبادات على ظاهر الكتاب والسنة أمر واجب بالإجماع، ومن لم يفرق بين الواجب والمندوب ولا بين المحرم والمكروه فهو جاهل، والجاهل لا يجوز الإقتداء به لا في طريق الظاهر ولا في طريق الباطن. فخرس ولم يرد جواباً، ثم انقطع عني من ذلك اليوم، وكان قد دأباني شراً من سوء أدبه، فأراحني الله منه.
وكان شيخنا سيدي علي الخواص رحمه الله يقول:” إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة تحرير الذهب والجوهر، وذلك لأن لهم في كل حركة وسكون نية صالحة بميزان شرعي، ولا يعرف ذلك إلا من تبحّر في علوم الشريعة “انتهى.
قلت: فكذب والله وافترى من يقول ” إن طريق الصوفيّة لم يأت بها كتاب ولا سنة “، وقوله ذلك من أكبر العلامات الدالة على كثرة جهله؛ فإن حقيقة الصوفي عند القوم: هو عالم عمل بعلمه على وجه الإخلاص لا غير، وغاية ما يطلبه القوم من تلامذتهم بالمجاهدات بالصوم والسهر والعزلة والصمت والورع والزهد وغير ذلك: أن يصير أحدهم يأتي بالعبادات على الوجه الذي يشبه ما كان عليه سلفهم الصالح لا غير.ولكن لما اندرست طريق السلف باندراس العاملين بها ظنّ بعض الناس أنها خارجة عن الشريعة؛ لقلة من يتخلق بصفات أهلها، كما بسطنا الكلام على ذلك في متاب المنهج المبين في بيان أخلاق العارفين، فاعلم ذلك، والحمد لله رب العالمين. “انتهى