السؤال/شيخنا الكريم انتشر في بعض مواقع الإنترنت فتوى لأحدهم يُجوِّز فيها ” نظر الرجل إلى المرأة عبر شاشات التلفاز “! مستدلاً بأقوال بعض الفقهاء دون ذكرٍ لخلاف في المسألة!! وقد غَرَّر بهذه الفتوى بعض الناس وفتَنَهم بها فهل في المسألة خلاف وما هو رأيكم في المسألة ؟
عبدالله المنبهي
الجواب:
هذه المسألة تسمى مسألة النظر إلى المثال –الصورة – وقبل الكلام عن المسألة لابد من بيان أمرين :
أولهما:أن الأصل إزالة الضرر العام ودرء المفاسد وخاصة في الزنا بإزالة كل ما يقرب إليه فقد قال الله تعالى::” { ولا تقرَبُوا الزنـا إنه كان فاحشة وساء سبيلا }[الإسراء:32]، وقال تعال: { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }[الأنعام:151]، وبيَّن سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسائلَ تلك القربات بقوله: { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكُ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ; الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ, وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ, وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلامُ, وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ, وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا, وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ }[أخرجه مسلم برقم 2657)
وقال سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: { مَا مِنْ صَبَاحٍ إلا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: وَيْلٌ لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ، وَوَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ }.[أخرجه ابن ماجه رقم 3999]
وقد بيَّن صلى الله عليه وآله وسلم أن النساء بذواتهن من أعظم قُربات الزنا؛ فقال: { إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء }[أخرجه مسلم رقم 2742)
، { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء }[البخاري رقم 4808)، { إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه }[الترمذي رقم 1158]،
وهذا في أصل خِلقَتِهِنَّ، فكيف إذا تبرّجْن وتزيَّنَّ كما هو حال من يَظهرن في الشاشات والمجلات وغيرها؟!
الأمر الآخر :ورود النصِّ بغض البصر وحفظ الفرج؛ فقال الله تعالى: { قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم؛ إن الله خبيرٌ بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجَهن ولا يُبدِين زينَتَهُنّ إلا ما ظَهَرَ منها، وَلْيَضْرِبنَ بخُمُرِهنَّ على جيوبهنَّ، ولا يُبدين زينتَهنّ إلا لبعولتهنّ أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو آباء أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غيرِ أولي الإربةِ من الرجال أو الطفل الذين لم يَظْهَروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن لِيُعلَمَ ما يُخفينَ من زينتِهن، وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّه المؤمنون لعلكم تُفلِحون }[النور:30-31].
وقال سيدنا رسول الله محمـد صلى الله عليه وآله وسلم: { النظر سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه عز وجل إيماناً يجد حلاوته في قلبه }[الطبراني رقم 10362]، { .. لا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْـرَةَ، فَإِنَّمَا لَك الأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الآخِرَةُ }[أبو داود رقم 2149]، يعني: نظر الفجأة ( غير المتعمد )؛ كما قال جَرِير رضي الله تعالى عنه: سَأَلْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ؟ فَقَالَ: { اصْرِفْ بَصَرَك }[أخرجه مسلم رقم 2159]
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: { كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ .. }[الديلمي رقم 4759]
فتبيَّنَ بالنصوص الماضية حُكم وأصل:
فالحكم: وجوب غض البصر بين الجنسين من الناس إطلاقاً إلا ما استثني
والأصل: وجوب غض البصر عن المنظور من قربات الفواحش الظاهرة والباطنة؛ إذ بيَّن سبحانه وتعالى أن علة وجوب غض البصر إنما هي: اتقاء قربات الفواحش الظاهرة والباطنة، وهو ما نصَّ عليه عز وجل بقوله: { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }[الأنعام:151].
والقربات الظاهرة: هي أعيان الجنسين، كالوجه الذاتي.
والقربات الباطنة: هي أمثلة الجنسين، كمثال الوجه في مرآة أو تلفاز أو صورة، وقد نبَّه الله تعالى في النص بأدناها إلى أعلاها، فقال: { ولا يضربن بأرجلهن لِيُعلَمَ ما يُخفينَ من زينتِهن } كما قال في حق الوالدين { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما }، ولا ريب أن نحو مثال التلفازِ أعلى من الخلخال وأفحش منه أثراً؛ لما فيه من إظهارٍ للمفاتن، فإن أضيف التَّبرج والتَّزين فهو أفحش.
ومما يدل على عدم الفرق بين عين المنظور ومثاله عموماً: قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: { لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعتها لزوجها كأنّما ينظر إليها } فإذا كان مجرد النعت منهياً عنه خشية الفتنة فكيف بالنظر إلى الصورة التي قد أبدت المفاتن وظهرت المرأة فيها متزينة وشبه عارية!!
إذ علم ما سبق تبين لك رجحان القول بتحريم النظر إلى العين أو المثال وهذا القول هو المتوافق مع قواعد الشريعة واختاره جمع من المحققين في سائر المذاهب خلافاً للقول بالتفريق بين العين والمثال وإباحة النظر للمثال دون العين قال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى حاكياً القولين ومرجحاً ما أثبتناه:”.. ومفاد هذا: أنه لا يحرم نظر الأجنبية من المرآة أو الماء، إلا أن يفرّق: بأن حرمة المصاهرة بالنظر ونحوه شدد في شروطها لأنه الأصل فيها الحل، بخلاف النظر؛ لأنه إنما منع منه خشية الفتنة والشهوة وذلك موجود هنا ، ورأيت في فتاوى ابن حجر من الشافعية ذكر فيه خلافاً بينهم ورجح الحرمة بنحو ما قلناه والله أعلم “اهـ[حاشية ابن عابدين:6-372].
فهذا خاتمة المحققين في المذهب الحنفي الإمام ابن عابدين رحمه الله يرى حرمة ذلك وينقل عن محقق المذهب الشافعي الكبير العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله القول بتحريم ذلك ،وقد أفتى به ابن القطان من المالكية رحمه الله فقال:”كل ما قلنا أنه لا يجوز أن ينظر إليه الرجل أو غيره من عورة أو شخص فإنه لا يجوز أ ن ينظر إلى المنطبع منه في مرآة أو ماء أو جسم صقيل ..”[النظر في أحكام النظر114]
فليتق الله تعالى المؤمن وليحفظ نظره عن الحرام ولا يغتر ببعض الأقوال التي تخالف الصريح من الأدلة وتخالف القواعد العامة من الشريعة .
والله أعلم
