هذا المقال نشر في جريدة المدينة ملحق الرسالة
في زمن كثر فيه الجهل بعلوم الشريعة الغراء وتكلم في الدين من شاء وجرد الفقه من ضوابطه إلا عند أولي العلم
عند ذلك كثر الخلط في كثير من المسائل الأصلية والفرعية ورمي بعض العلماء بالابتداع والإحداث. كان لزامًا حينها أن نعود لقوانين الفقه التي قعدها المجتهدون ومن بين تلك القوانين قانون البدعة والذي سيكون محور كلامنا في هذا اليوم فأقول مستعينا بالله تعالى:
البدعة في اللغة:
البدعة في اللسان العربي: اسم من الابتداع، يقال: أبدع الشيء يبدعه بدعًا، وابتدعه: أنشأه وبدأه. والبدع والبديع: الشيء الذي يكون أولًا.
وفي التنزيل: “قل ما كنت بدعًا من الرسل” الآية [الأحقاف- 9] أي: ما كنت أول من أرسل بل أرسل قبلي رسل ٌكثيرون.
قال أبو البقاء في الكليات: “البدعة هي عملُ عَمَلٍ على غير مثال سبق”.
البدعة في الشريعة: تباينت نظرة الناس في تحديد المفهوم الشرعي للبدعة وهذا التباين انبنى عليه خلاف كبير في كثير من مسائل الشريعة؛ وذلك لأن مفهوم البدعة من القضايا الكلية في الشريعة والتي تبتني عليها فروع كثيرة.
والتحقيق في المسألة أن يقال:
البدعة: تطلق ويراد بها في الشرع: ما أحدث وليس له أصل في الشرع.
وعليه فما كان له أصل يدل عليه في الشرع لا يكون بدعة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: “المحدثات جمع محدثة والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعة. فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودًا أو مذمومًا. اهـ. [فتح الباري: 253 / 13]
وهذا الكلام الدقيق من العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى هو المتقرر قبلُ عند المتقدمين من علماء الأمة ومجتهديها. يقول الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى [ت:204]:
“المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث يخالف كتابًا، أو سنة، أو أثرًا، أو إجماعًا. فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة” أ.هـ [البيهقي في مناقب الشافعي1/468، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري 97]
وقال الشافعي رحمه الله أيضًا: “البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: “نعمت البدعة هي”[حلية الأولياء9/113]
وهذا الحافظ علي بن محمد بن حزم رحمه الله[ت:456]:
قال: البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إلا أن منها ما يُؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسنًا، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه:
“نعمت البدعة هذه”. وهو ما كان فعل خير وجاء النص بعمومه استحبابًا، وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذمومًا ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به. “أ.هـ.[الإحكام 1/47]
وهذا حجة الإسلام الإمام الفقيه الأصولي أبو حامد الغزالي رحمه الله[ت:505هـ] يقول: البدعة قسمان: بدعة مذمومة وهي ما تصادم السنة القديمة ويكاد يفضي إلى تغييرها،وبدعة حسنة ما أحدث على مثال سبق. “أ.هـ.
ويعرفها العلامة المحقق أبو شامة رحمه الله تعالى:
“ ثم الحوادث منقسمة إلى:بدع مستحسنة، وبدع مستقبحة. (ثم نقل قول الإمام الشافعي في البدعة، الذي تقدم”[الباعث على إنكار البدع -22 ]
ويعرفها الإمام الحافظ محيي الدين النووي رحمه الله[ت:676] بقوله:
“هي إحداث مالم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة..” ونقل تقسيم الإمام العز بن عبدالسلام وقال عنه: “الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته، أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام رحمه الله ورضي عنه في آخر كتاب القواعد…”أ.هـ [أنوار البروق 8/224]
ولا أريد أن أستفيض في النقول عن أئمة الفتوى والاجتهاد خشية السآمة والإملال وإلا فهناك المزيد والمزيد ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
الدليل على تقسيم البدعة:
تضافرت الأدلة على أن البدعة تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة قبيحة، ومن أنكر ذلك فليس له مساس بالسنة الشريفة رواية ودراية، فقد جاء عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة”[صحيح مسلم 2/704].
فهذا نص صحيح صريح في تقسيم السنة إلى ذينك القسمين أولهما: من أحدث في الدين حدثًا لم يكن فيه إلا أنه منه ولا يخالف أصوله فهذه بدعة حسنة، وثانيهما: من أحدث فيه حدثًا على خلاف أصوله المتقررة شرعًا فذلك هو الممنوع وما يسمى بالبدعة القبيحة الضلالة.
وقد حاول بعضهم صرف الحديث عن ظاهره فقال: سنّ: معناها أحيا؛ لأن الحديث فيه “ومن سن في الإسلام سنة سيئة”. الحديث.
وهو اعتراض مردود؛ لأن معنى كلامه على تأويله المردود “من أحيا في الإسلام سنة سيئة” وهذا كلام فيه شناعة لأنه يلزم منه وجود سنة سيئة في الإسلام، نعوذ بالله من الخذلان.
واحتجاج بعضهم بقول الله تعالى: “وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها..”الآية ليس ذمًا للبدعة مطلقًا بل الذمَّ لم يكن لابتداعهم تلك البدعة بل الذم كائن لهم لعدم الرعاية لها يكشف عن ذلك العلامة الآلوسي رحمه الله بقوله: “وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقًا، والذي تدل عليه ظاهرًا ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح «صحيح مسلم». قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة. فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك. ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم «كل بدعة ضلالة» من العام المخصوص. “أ.هـ.[روح المعاني 20/346]
وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: “وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرًا أن يدوم عليه ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية”أ.هـ[القرطبي 17/264]
وليس في قوله صلى الله عليه وسلم: “كل بدعة ضلالة” ذم لمطلق البدعة كما يفهمه بعضهم فهو وإن جاء بصيغة العموم فهو من قبيل العام المخصوص بل إنه قد ورد ما يدل على التخصيص في ذلك وهو قوله صلى اله عليه وسلم: “من ابتدع بدعة ضلالة، لا ترضي الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئًا..” [الترمذي برقم: 2677] وإن كان فيه ضعف لكنه يذكر من باب الاستئناس وإلا فحجتنا على ما ذكرنا من الأدلة قائمة ظاهرة ليس فيها ضعف بحمد الله تعالى.
وهذا الحديث نظير قوله صلى الله عليه وسلم: “كل عين زانية” فقد جاء بصيغة العموم والمراد منه: كل عين ناظرة للحرام فهي زانية لا كل العيون.فافهم.
الجزء الثاني نشر بتاريخ
قال الإمام الحافظ الفقيه محيي الدين النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه والسلام: “وكل بدعة ضلالة” هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع”.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”. فهذا الحديث حجة لما سبق من تقرير فإن الإحداث المذكور إنما هو الإحداث في الدين الذي يخالف الشرع وليس له مستند من كتاب أو سنة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه”.أ.ه [فتح الباري لابن حجر 5/302]
فقوله رحمه الله: “ما لا يشهد له أصل” صريح في أن هناك حوادث محدثة في الدين يشهد لها أصل، وهذا هو الذي دل الحديث عليه بعينه، ودل عليه ما سبق من تقرير.
تقسيم آخر: قد تكون البدعة واجبة وقد تكون مندوبة وقد تكون مباحة وقد تكون مكروهة وقد تكون محرمة باعتبار ما تندرج تحته وقد بسط ذلك جماعة من العلماء ومنهم: الإمام النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء واللغات، وها أنا أسوق لك كلام الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله في ذلك -بتصرف- وقد بين فيه طريقة معرفة حكم البدعة فقال: قال العز بن عبدالسلام:
“البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى:
بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة. وللبدع الواجبة أمثلة: أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
المثال الثاني: الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم. وللبدع المحرمة أمثلة: منها مذهب القدرية، ومنها مذهب الجبرية، ومنها مذهب المرجئة، ومنها مذهب المجسمة. والردُّ على هؤلاء من البدع الواجبة.
وللبدع المندوبة أمثلة: منها: إحداث المدارس وبناء القناطر، ومنها كل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها صلاة التراويح. وللبدع المكروهة أمثلة: منها زخرفة المساجد، ومنها تزويق المصاحف.
وللبدع المباحة أمثلة: منها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام..”أ.ه [قواعد الأحكام 2/384بتصرف]
على أنه ينبغي أن يعلم أن السنة التقريرية في أصلها بدعة فعلها الصحابي فأقره النبي صلى الله عليه وسلم عليها لاندراجها في أصل من أصول التشريع لا تخالفه.
ولذلك أمثلة كثيرة في السنة النبوية ومن ذلك:
– ما جاء عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الفجر: “يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك في الجنة” قال: ما عملت عملًَا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًَا قط في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي”. [بالبخاري رقم: 1098، ومسلم برقم: 2458] فانظر رعاك الله إلى سيدنا بلال رضي الله عنه كيف أحدث عبادة لم يرد بها نص من قرآن، أو أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصها بعينها، وواظب عليها مدة من الزمن دون الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت موقع القبول من الله تعالى بحيث كانت سببًَا في دخوله الجنة، فهذه بدعة أحدثها رضي الله عنها وفعلها مدة من الزمن مع عدم الدليل الدال عليها إلا أنها لا تخالف أصل الشريعة ولذا جاء الإقرار بفعلها بعد ذلك.
– ومنها ما رواه البخاري وغيره عن رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: “سمع الله لمن حمده”. قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًَا كثيرًَا طيبًَا مباركًَا فيه، فلما انصرف قال: “من المتكلم؟” قال: أنا: قال: “رأيت بضعة وثلاثين ملكًَا يبتدرونها أيهم يكتبها”. [البخاري برقم: 766]
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: استدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور اه. [فتح الباري 2/287]
– وجاء في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرًَا، والحمد لله كثيرًَا، وسبحان الله بكرة وأصيلًَا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من القائل كلمة كذا وكذا” قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال: “عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء”. قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. [مسلم برقم: 1386]
فانظر إلى هذا الذكر الذي فتحت له أبواب السماء، وقد قاله الصحابي ابتداء من نفسه دون أن يكون له مستند من كتاب أو سنة، ثم أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر فضيلته فصار سنة نبوية شريفة التزمها سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما ومن بعده من الأمة كثيرون.
فإن تحجج بعضهم بأن ذلك إنما كان في حياته صلى الله عليه وسلم فتلك حجة واهية والتفريق بين ما كان في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته غير صحيح إذ إن من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من أحدث أشياء ليس له فيها نص بعينها، وهو يعلم أنه لن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر فيما فعل أهو سنة حسنة أم بدعة ضلالة، ومن ذلك صلاة سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه ركعتين قبل أن يقتل حيث جاء في حديث البخاري: فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرًَا. [البخاري برقم: 2880] فهل مات سيدنا خبيب رضي الله عنه ضالًَا مبتدعًَا بإحداثه هاتين الركعتين قبل أن يعرض أمره على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره عليهما؟!! حاشا وكلا، بل هو المؤمن الصالح والشهيد الكريم الذي رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامه فقال: “وعليك السلام يا خبيب قتلته قريش” وقطعًَا هاتان الركعتان لم تخفيا على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كانتا بدعة ضلالة لم يجز له تأخير بيان حكمهما عن وقت الحاجة!! فتقرر ما ذكرناه سلفًَا على أن الناظر في كتب الفقهاء رحمهم الله تعالى يجد أمثلة مثل ذلك فقد أحدث سيدنا عثمان رصي الله عنه الأذان الأول يوم الجمعة وقد أحدث سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعدد صلاة العيد في المصر الواحد وغير ذلك مما هو متقرر في كتب الفقهاء رحمهم الله تعالى. ولذا لا يجوز التعجل بالحكم على شيء أنه بدعة ضلالة حتى يتبين القائل ويعيد النظر كرة بعد كرة في أصول التشريع حتى يعرف ما يندرج تحته مما لا يندرج وحتى يميز بين بدعة ضلالة وسنة حسنة.
• عبدالله بن سعد الشهراني
soooood4@hotmail.com
تنبيه Pingback: قانون البدعة - الإسلام ديني
تنبيه Pingback: ليلة النصف من شعبان » الإبهاج
تنبيه Pingback: ما حكم تعلم الحجامة واتخاذها حرفة؟ -
تنبيه Pingback: لبس الكمامة في الإحرام -